* الشهيد السيد محمد حسين البهشتي
مقدمات ضرورية في فهم القرآن:
1 ـ لا شكّ أن الفهم الاجمالي للقرآن الكريم لا يختصّ بفئة معينة،فقد جاء القرآن ليستفيد منه الجميع، وهو ما أكدته آيات كثيرة، كما أكدت دائماً أنّ القرآن كتاب هداية للمتقين. فهو نور ومنوِّر، مبين ومبيِّن للحقائق والوظائف. وواضح جداً أن المستفيدين مباشرة من القرآن هم الذين بُعث فيهم النبي الاكرم(صلى الله عليه وآله). وفي التاريخ قصص عديدة تحدّثت عن أفراد كانوا كافرين بالاسلام ويعارضونه، ولكنهم بعد أن استمعوا لبعض آيات القرآن وأدركوا معانيها تعلّقوا بالاسلام تعلّقاً شديداً واستهدوا بهداه.
لقد كان المسلمون يتعرّفون على تكاليفهم الشرعية من خلال الاحكام والاوامر الجهادية التي كانت تنزل على النبي(صلى الله عليه وآله) على صورة آيات قرآنية يبلّغها لهم ويتلوها عليهم، ولا شكّ في أن معظم القرآن ـ وليس القليل منه ـ ميسّر لفهم عامة الناس، كما صرّحت بذلك بعض الايات القرآنية وشهد معناها الواضح عليه. وكذلك فان كل من له معرفة بالتاريخ والسيرة النبوية يعلم أن ذلك من مسلّماتهما.
2 ـ إن القرآن مع كون معظمه ميسّراً لفهم العامة قد نزل اولا: باللغة العربية، وثانياً: بلغة عصر النبي، وثالثاً: كان خطاباً شفهياً وليس خطّياً، إذ كان كلاماً مباشراً خوطب به الناس تدريجياً وبمناسبات مختلفة، ولم يكن بشكل كتاب مؤلّف جرى تنظيمه من ألفه إلى يائه، وكان النبي يلقي على الناس ما ينزل إليه من آيات مشافهة فيحفظونها أو يكتبونها، وعلى المهتمين بدراسة القرآن وفهمه أن يولوا هذه المسائل الثلاث وما يترتب عليها اهتماماً كبيراً:
اولاً: تلزم الاحاطة باللغة العربية وهو الشرط الاول للرجوع المباشر إلى القرآن الكريم، فكما ذكرنا أن لغة القرآن هي العربية، ولا شك أن فهم المتن العربي يقتضي ـ في من يطالعه ـ الالمام جيداً بلغة العرب. وللاسف، فقد لاحظت مراراً في هذه الفترة أن البعض يحاول ـ وبحسن نية ـ فهم معاني الايات القرآنية، رغم أنه لا يجيد العربية، معتمداً على اطلاعه السطحي بعلوم الصرف والنحو، وعلى معاجم عربية أجنبية، أو ما اُعِدّ مؤخراً في ترجمة معاني المفردات القرآنية الى الاجنبية. لذلك يوقعون أنفسهم في أخطاء مضحكة، لكنهم لحسن نيتهم وطيبتهم يتقبلون النصيحة برحابة صدر عندما نبيّن لهم نواقص طريقتهم.
من هنا، فإن المعرفة الجيّدة بالصرف والنحو واللغة، وقابلية الاستفادة من الكتب اللغوية (بالالتفات الى أن لبعض المفردات عدّة معان، الامر الذي يقتضي مقدرة نسبية في الاستفادة من الكتب اللغوية لتحديد المعنى المناسب) هي الامور التي تترتب على المسألة الاولى.
ثانياً: ضرورة الاطلاع على اللغة والثقافة العربية في الحجاز ونجد واليمن ومناطق أخرى في عصر النبوة، فقد ذكرت أن القرآن جاء بالعربية المعاصرة للبعثة، ويعلم كل من لديه معرفة باللغات، أن اللغة عند كل الشعوب تتطور وتتغير. فان هناك مفردات لغوية تعطي الان معنىً مغايراً للمعنى الذي أعطته قبل ألف وثلاثمئة عام، لذا تجب معرفة معاني المفردات القرآنية في ذلك العصر، فإذا اكتسبت إحدى المفردات اليوم معنىً نميل إليه ونرغب أن يكون هو المعنى الذي تقصده الاية من استخدامها لتلك المفردة، فمن الخطأ حمل هذه المفردة على ذلك المعنى باعتباره المقصود في عصر نزول القرآن، إذ لم يكن لهذا المعنى أي وجود في ذلك العصر. فمثلاً: كان أحد الاشخاص يقوم بإعداد بحث حول الطبيعة في القرآن، فيستخرج الايات المتعلّقة بالطبيعة، وقد ألقيت نظرة على شروحه وإيضاحاته، فإذا بي أجد أنه استند الى معاني مفردات لا تتناسب مع المعاني المستوحاة من العربية في عصر نزول القرآن. فهو مثلاً يستدلّ بالاية الكريمة: (اَلَمْ نَجْعَلِ الارْضَ كِفاتاً)[1] على أن الله تعالى وصف الارض بالطائر السريع الطيران، وبذلك بيّن حركة الارض السريعة. لقد رجع هذا الشخص الى المعجم اللغوي، فوجد أن مفردة «كِفات» تعني الطائر السريع، فاستدلّ على أن القرآن أشار الى حركة الارض. وقد قلت له: عليك أن ترى، هل أن لفظ «كفات» كان يملك معنى الطائر السريع في عصر نزول القرآن وبيئته؟ أم أن اللفظ اكتسب هذا المعنى بالتدريج؟ ثم عليك ثانياً ان تلاحظ أن هذه الاية متّصلة بالاية التي تليها: (أحْياءً وَأَمْواتاً)،فماذا يعني الطائر السريع الطيران للاحياء والاموات؟ فهل ثمّة معنى واضح؟ وبالرجوع الى المعاجم يتبين أن «كفاتاً» في الاصل هي الارض التي تضمّ الاشياء الاُخرى، بمعنى: ألم نجعل الارض تضمّ الاحياء والاموات؟. فالملاحظ هو أن هذا الشخص رأى أن كلمة «كفاتاً» تأتي في اللغة بمعنى الطائر السريع، ولانه بصدد إثبات حركة الارض عن طريق الايات القرآنية، استند الى هذه الاية، ولم يلتفت الى أن هذا المعنى هل كان موجوداً في عصر البعثة أيضاً، أم هو مفهوم مستحدث للكلمة؟
إضافة الى ما سبق، فمن غير الممكن أن لا يأخذ أي موضوع ـ يكتب أو يقال ـ بالاعتبار الظروف الاجتماعية وغيرها التي تكتنف عصر صدور الموضوع، لانه قيل أو كتب وسط تلك الاجواء، لذلك ثمة مجموعة من القرائن تساعد على فهم قصد المتحدّث والكاتب.
ففي معركة «اُحد» نزلت آيات خاطبت المقاتلين فأدركوها ووعوها على الفور لانهم كانوا في ساحة المعركة، وعايشوا الحدث بكل أبعاده، أما أنا الذي لم أكن كذلك، فماذا يجب عليّ أن أفعل حتى ادرك ذلك الموضوع؟ يجب عليّ أن أعيش تلك الاجواء من خلال دراسة التاريخ.
إذاً فالفهم الصحيح للقرآن يرتبط باستحضار ظروف نزول الايات وقد عايش الناس في عصر الرسالة ومحل نزولها تلك الظروف، ولكن عن أي طريق كان يمكن لمن عاصروا الرسالة بعيدين عن محل نزولها ولمن جاءوا في العصور اللاحقة أن يستحضروا تلك الظروف؟ إن التحقيق والدراسة التاريخية والاطلاع على أسباب نزول القرآن هي من شروط الفهم الصحيح للكثير من الايات القرآنية، وقد ألّف المحققون السابقون كتباً متعددة في أسباب النزول، من بينها كتابان مهمّان جداً استفاد منهما مفسرو القرآن: أحدهما: اسمه «أسباب النزول» للواحدي، والاخر «لُباب النقول في أسباب النزول» للسيوطي. وتجب مع ذلك دراسة تاريخ الاسلام في عصر نزول القرآن.
ثالثاً: إن القرآن ليس مؤلّفا على شكل كتاب ـ كما ذكرنا ـ إنما هو مجموعة من الايات والسور التي تنزّلت على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، وفي مناسبات مختلفة، ولظروف متنوعة، ثم جمعت بشكل كتاب. ولم يكن تنظيم الايات وترتيبها حسب نزولها ووحيها، فإن الادلّة التاريخية تثبت أن بعض الايات وضعت في آخر سورة من السور مع أنها نزلت قبل ذلك بسنين. من هنا، فإذا رأينا أحياناً أن المعنى الظاهر والواضح لاية لا يرتبط ارتباطاً كاملاً مع موضوع الايات اللاحقة أو السابقة، فيجب أن لا يستولي علينا الشكّ والريب، فنحاول عبثاً أن نفرض معنى للاية كي نوجد الترابط بينها وبين تلك الايات.
3 ـ يلاحظ في الكثير من الايات أن الكلمة الاولى في الاية اللاحقة تكون متممة للفعل أو الصفة في الاية السابقة، وبعبارة اُخرى، قد يأتي مقطعان لجملة طويلة على شكل آيتين.
وعدم الالتفات إلى هذه المسألة يقود الى مزالق في فهم القرآن. والايتان (25 و26) من سورة المرسلات واللتان سبقت الاشارة إليهما، مثال على ما نقول، فآية: (أحياءً وأمواتاً) ليست جملة واحدة أساساً، إنما هي متممّة لسابقتها. وحتى لو افترضنا أن «كفاتاً» كانت تستخدم في عصر البعثة بمعنى الطائر السريع، فيجب، وعلى أساس الترابط بين الايتين، أن يكون معناها الضم وليس الطائر السريع.
4 ـ ثمّة آيات قرآنية تناولت نفس الموضوع في فترات مختلفة ونتيجة لتغيّر الظروف، تعالج ما جدّ من أمور وتكمل الموضوع السابق، لذلك فإذا أردنا أن نتبيّن رأي الاسلام في موضوع معين فيجب استقصاء كل الايات ذات العلاقة بذلك الموضوع وتنظيمها وفق التسلسل الزمني لتنزّلها، ومن هنا قيل: إن «القرآن يفسر بعضه بعضاً».
5 ـ ذكرنا أن القرآن كلام تنزّل في ظروف تاريخية خاصة، وعالج قضايا عصر تنزّله، إلاّ أنه بحكم كونه كتاباً عالمياً وخالداً لا يمكن أن يقتصر محتواه على ظروف ذلك العصر، بل يتجاوزها ليشمل كل زمان ومكان. وهذا أمر واضح ومسلّم أكّده القرآن بنفسه، فهو ـ مثلاً ـ وصف النبي(صلى الله عليه وآله) بأنه: (لِلْعالَمينَ نَذيراً)[2] و: (كافّةً لِلنّاسِ)[3]، ودعا الى الاستهداء به (أي القرآن) في كل زمان ومكان، من هنا فالقرآن شمولي يمتدّ بامتداد الزمان والمكان. إلاّ أنّ استيحاء المعنى القرآني في مختلف الاعصار والامصار عمل فوق الفهم العادي للقرآن ولا يتيسر لايٍّ كان حتى لمن عاصر الرسالة وفهم معاني القرآن، فذلك عمل مهمّ يتطلب تخصصاً واستعداداً.
6 ـ إن القرآن كتاب يخاطب الانسان بجميع اتجاهاته الفكرية والروحية والسلوكية الناجمة عن متطلّباته الذاتية، وحيث إن هناك اختلافاً واسعاً بين الناس في هذه الجوانب، فإن تأثير القرآن على الناس يكون مختلفاً أيضاً، فقد دلّت التجارب على أن تلاوة آية على أحد الاشخاص تجعله يتفاعل معها ويسمو روحياً، بينما قد لا تحدث تلاوة هذه الاية نفسها على شخص آخر أي تأثير. كذلك فإن تفاسير الافراد لاية معينة تختلف باختلاف طبائعهم، فنجد أحياناً شاباً له ذوق سليم ودوافع روحية يتوصل من خلال آية معيّنة إلى نتائج حية ورائعة، بينما نجد شخصاً آخر قد يكون متضلّعاً في الدراسات القرآنية ولكنه يفتقد لذلك الذوق والدوافع الروحية فيعجز عن الوصول الى مثل تلك النتائج. وهذه المسألة يجب مراعاتها والاخذ بها في فهم القرآن والمتون الدينية والانسانية الاُخرى.
وأنا بدوري اُعرب عن ارتياحي الكبير لاُولئك الذين يدوّنون استنتاجاتهم الحيّة من الايات القرآنية، شرط أن يذكروا صراحة أن هذا يمثل فهمهم للاية، وأنهم لا يصرّون على أنه الفهم الحق، وذلك لانه لو حصر مدلول الاية بما فهمه هو لسدّ الطريق على غيره، فقد يأتي شخص آخر بمؤهّلات أكبر وملكات روحية أعلى، باستطاعته التوصل الى معنى أدلّ وأكمل. ولقد التزمت بهذا المعنى في البحوث التفسيرية التي كنت قد ألقيتها، فكنت حينما أتوصل الى نتائج جديدة في تفسير الاية، أؤكّد أن هذا فهمي للاية، بل لم اكن أتدخل في ترجمة الاية الى الفارسية إذ كنت اُشير الى أن هذه ترجمة الاية وهذا فهمي لها. فأوصيكم بأن تميزوا بين ترجمة الاية وفهمكم الشخصي لها، لامكانية وجود فهم أرقى من فهمكم، فبقدر ما تولون فهمكم واستنتاجكم من الاهمية عليكم أن تولوه لفهم الاخرين واستنتاجهم، فإن للفهم والاستنتاج درجات مختلفة.
7 ـ هناك مزالق عجيبة تكتنف أحياناً الاستنتاجات الجديدة من القرآن، فمثلاً كتب بعضهم ما أسماه تفسيراً للقرآن، وعندما وصل الى آية: (أقيمُوا الصّلاة)[4] كتب في تفسيرها: أي أقيموا الثورة، باعتبار أن الصلاة تعني الثورة، لان القرآن يقول: (إنَّ الصّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)[5]، أي أن الصلاة تردع عن فعل القبائح والمنكرات والظلم، وهناك في الاقل 300 مليون مسلم يصلّون بشكل منتظم، إلاّ أن صلاتهم لم تمنعهم من فعل الفحشاء والمنكر، إذ نرى البغي والفحشاء والمنكر إلى جانب الصلاة والمساجد عند المسلمين. إذاً فهذه الصلاة لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، فيما يؤكّد القرآن: (إنَّ الصّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالمُنْكَرِ).
إذاً ليس المراد من الصلاة هذا المعنى المعروف، وإلاّ فالقرآن لم يتحقق ادعاؤه، بل لها معنى آخر لا بد من حملها عليه تنزيهاً للقرآن عن مخالفة الواقع، وهذا المعنى هو الثورة، فكل الايات التي جاءت فيها جملة: «أقيموا الصلاة» معناها اقيموا الثورة وهنا يتبين السبب في عدم قوله: «صلّوا» بل قال: «اقيموا الصلاة» لان الاُولى غير الثانية والتي تعني أقيموا الثورة. كذلك يصبح معنى «يقيمون الصلاة»، مقيمي الثورة، والمؤمنون حقاً هم أولئك الذين يقيمون الثورة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
وفي ضوء هذا الفهم للقرآن يظهر أن الجميع بما فيهم رسول الله(صلى الله عليه وآله)وعلى مدى أربعة عشر قرناً أخطأوا فهم معنى الصلاة وإقامتها، ولعلّ هذا الشخص يفسّر جملة: «قد قامت الصلاة» التي نذكرها قبل كل صلاة بـ : «قد قامت الثورة». وهذا هو التفسير بالرأي، الذي يرفضه المنصفون حتى من غير المؤمنين.
وهنا اُوجّه كلامي الى هذا الشخص فأقول: أجل إن القرآن كتاب ثورة، والاسلام دين ثورة، وآيات الثورة كثيرة جداً في القرآن، فهل ثمّة شحّة في آيات الثورة لنحمّل جملة: «أقيموا الصلاة» ذلك المعنى، في محاولة لاظهار الوجه الثوري للاسلام؟ وإذا رأيت أن صلاة 300 مليون مصلّ لم تنه عن الفحشاء والمنكر، فليس ذلك إلاّ لان صلاتهم ليست بصلاة حقيقية، إنما صلاة صورية بلا معنى، فالصلاة هي ذكر الله، وإذا أدّى الانسان صلاته بحقيقتها كلّ يوم خمس مرات أحيا ذكر الله في نفسه وقلبه وروحه، وكانت معرفته بربّه والعلاقة صحيحةً. فإنه كلّما ذكر الله صار ذلك ناهياً له عن الفحشاء والمنكر والبغي. الصلاة الحقيقية تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ولكن ليس بشكل كامل، فهي أحد عوامل النهي، كذلك الثورة لا يمكنها الحيلولة دون الفحشاء والمنكر بشكل كامل.
نقول ما معناه: اُقيم احتفال، واُقيمت مراسيم الدعاء، وهذا اصطلاح متعارف، وفي الانجليزية يقولون: (To say prayer) وترجمته الحرفية: قلتُ الصلاة، لكنه عندهم اصطلاح يطلق على أداء الصلاة، كذلك فإن الترجمة الحرفية لما نطلقه على أداء الصلاة في الفارسية هو: قرأت الصلاة ولو سألت ناطقاً بالعربية: هل قرأت الصلاة؟ لسخر منك، إذ يقولون بالعربية: هل صلّيت؟ إذاً هناك في كل لغة اصطلاح خاص بها. ومع ذلك فالقيام من واجبات الصلاة، والقيام قبل الركوع أحد أركان الصلاة، وعلى هذا فمن الطبيعي أن يصطلح بالاقامة على أداء العبادة التي أحد واجباتها الاساسية هو القيام، ومن ثم فلا حاجة لتحميلها معنى الثورة لمواءمتها تعبير الاقامة.
إن هذا التعامل مع الايات القرآنية هو التفسير بالرأي، الذي يسلب الكتاب الالهي أصالته فيا تُرى، هل يرضى الشاب المؤمن بأن يأتي أيٌّ كان فيشكّل الايات القرآنية ويقولبها كيفما يشاء ليستنتج ما يريد من المعاني، بدلاً من أن يكون القرآن هو الذي يعطينا إطاراً فكرياً بأبعاد مشخّصة، ويحدد لنا نظرة كونية وإيديولوجية معينة؟
يُزعم أحياناً أن لغة القرآن لغة رمزية. وهنا يجب إيضاح المقصود من هذا الزعم: فاذا كان المقصود منه أن لغة القرآن كالرسائل المشفّرة المتداولة بين السياسيين والعسكريين التي تكتب بإشارات ورموز مصطلح عليها فنحن نرفض ذلك. فالقرآن ليس كتاب رموز وإشارات، إنه كتاب مبين بمفاهيم بيّنة ومبيِّنة، وإن القسم الاعظم والاساسي فيه هو «الايات المحكمات» بمعانيها الثابتة والقريبة من فهم العامة.
أجل هناك قسم من الايات القرآنية يسمى بـ «المتشابهات» وهي رمزية الى حدّ ما، ولكنها لا تشكّل سوى قسم قليل من الايات.
أما إذا كان المقصود أن ثمّة مفاهيم ومعاني أعلى في القرآن ـ إضافة إلى المعاني القريبة من فهم الجميع، بحيث يدركها بصورة أفضل أولئك المتقدمون فكريا أو اجتماعيا، وهذه لا تتنافى مع تلك، إنما هي مرحلة فوقها ـ فنحن نوافق على هذا الفهم.
8 ـ إن فهم القرآن في المستويات العالية يتطلّب تخصّصاً، ولا يتسنى ذلك في بعض هذه المستويات إلاّ بالاستعانة بمنبع الوحي. إذ إن إحدى درجات فهم القرآن مختصة بالنبي والائمة صلوات الله عليهم، ولا يمكن الوصول الى هذه الدرجة إلاّ عن طريق رواياتهم، ويكون هذا في الموارد التي لا يبدو فيها الترابط واضحاً بين المفردات والعبارات القرآنية وبين المعنى الرّمزي أو العام، حتى لو كان المعنى مفهوماً. فكما أن النبي تلقّى الوحي، فباستطاعته كذلك تقديم هذه الايضاحات الاستثنائية. وإلى هذه الدرجة من التفسير أشارت الروايات التي تحدّثت عن كون التفسير مختصاً بالنبي وأهل
البيت صلوات الله عليهم.
وهناك نوع آخر للمعنى الرمزي لا يكون فيه الترابط بين المعنى واللفظ واضحاً بحيث يستطيع الكثيرون فهمه، ولكن إذا فهمه أحدهم وشرح المعنى للاخرين تقبّلوه باعتباره المعنى الجديد الذي تعكسه الاية. وهذا تفسير للقرآن أيضاً، لكن ليس ذلك التفسير الذي يختص به النبي والائمة صلوات الله عليهم، ويجب في هذا التفسير تجاوز الاهواء النفسية والرغبات الذاتية، وإلاّ فإن معنى الاية سيكون انعكاساً لتلك الاهواء والرغبات، وهناك من يتمنى أن تعطي الايات معاني تلائم أهواءه ورغباته، ويسعى للعثور على من يدّعي فهم تلك المعاني من الايات لقبولها منه على الفور. واذا كان كذلك صار نوعاً من التفسير بالرأي، وهو أمر مذموم ومرفوض، وقد عارضته الروايات الواردة عن النبي والائمة بشدّة، وما أشرنا إليه في مورد الصلاة شاهد على هذا القول، فلان ذلك الشخص كان يرغب في الحصول على شواهد من الايات القرآنية تبرهن على ثورية القرآن، لذلك كان ذهنه لا يلتفت إلاّ الى معان لا يرى فيها المحايدون أيّ ارتباط باللفظ.
وفيما يتعلّق بتوسيع دائرة أحكام الايات ومواضيعها وفقاً لمتطلّبات الزمان والمكان، فإنه من الضروري الاشارة الى أن المقدرة على التوسيع تحتاج بالاضافة الى التخصص العلمي الى كمال آخر هو «الامامة»، بمعنى أن توسيع دائرة الحكم من ظروف زمانية ومكانية معينة إلى ظروف اُخرى عمل دقيق ليس بوسع أيّ عالم ومحقق أن يدركه، فهذا شأن الامام والقائد الذي يمكنه إدراك المعاني والتعقيدات.
وعلى هذا الاساس يدور التوسيع مدار الامامة ويقع ضمن صلاحياتها، فإذا كانت الامامة مطلقة وبمستوى الامام المعصوم فنقول: إن ذلك من اختصاص الامام المعصوم، وإذا كان الامر من صلاحيات الامامة النسبية والتي تشمل غير المعصوم أيضاً فنقول: إنه من شؤون الامام النسبي[6].
9 ـ في القرآن آيات متشابهة، وكلمات ليست واضحة المعاني وضوحاً، جيداً، مثل فواتح بعض السور ومنها: «ألم، يس، كهيعص» وغيرها، وكلمات وجمل غامضة المعاني وقريبة من الرموز. وقد أكّد القرآن في سورة آل عمران[7] على أن مثل هذه الايات لا يعلم تأويلها إلاّ اللّه ومن أخذ علمه عنه تعالى أي النبي والامام، وهذا يستدعي حيطة كبيرة في الايات المتشابهة، فمن الخطأ تفسير مثل هذه الجمل والكلمات وفقاً للرغبات، وللوصول الى اكتشاف موضوعات جديدة، الامر الذي يؤدّي الى تحميل القرآن مواضيع ليس لها أيّ ارتباط واضح ومستدلّ بالقرآن.
فاذا كان المتحدّث يعلن رسمياً أن في حديثه إشارات ورموزاً وكنايات يختصّ فهمها بمن يملك مفاتحها فيصبح من العبث الاصرار على كشف الرموز دون امتلاك مفاتحها. فثمّة أشخاص قاموا بذلك في موارد مثل: «كهيعص وحم وعسق» ففسّرها كلٌّ منهم وفق رغبته الخاصة، فقال أحدهم: إن «كهيعص» تشير بالحروف الابجدية الى وقت ظهور إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه، وجاء غيره بتأويل آخر وهكذا..، وهذه أعمال منحرفة يجب الحيلولة دون وقوعها.
وقد وجدت من خلال متابعاتي القرآنية أن هناك نوعين للمتشابه:
1 ـ المتشابه الكامل مثل: «ألم».
2 ـ المتشابه النسبي، بمعنى وضوح معنى العبارة الى حدّ ما، وبتجاوزه تصبح من المتشابهات، ويحار الانسان في فهمها، وهنا عليه ألاّ يلجأ الى التأويل.
إذاً يجب الامتناع عن التأويل في المتشابهات الكاملة والنسبية. وفي حالات التشابه ـ أي عندما يتردّد الانسان في فهم المعنى من العبارة، وإن العبارة تعطي معنيين متقابلين ـ عليه أن يتوقف عند هذا الحدّ من الدلالة الواقعية للعبارة، فلا ننسب للقرآن مواضيع لا يمكن التوصّل إليها من خلال الالفاظ. فمن الممكن أن تعطي العبارة معنىً مباشراً في حدّ معين، لكنها تعطي معنيين أو أكثر إذا تجاوزنا ذلك الحدّ، ويطلق على هذه العبارة تسمية «المتشابه النسبي» فهي محكمة بالنسبة للمعنى المباشر ومتشابهة بالنسبة لما بعده.
وفي كل الاحوال يجب عدم الاستناد الى العبارات في الحدّ الذي تعطي فيه معنيين أو عدة معان، وهذه من الوصايا التي أكّد عليها القرآن الكريم، لانه لا ثمرة ترتجى من اتخاذ العبارات متعددة المعاني كمستمسكات، غير الفتنة والاختلاف، فقد جاء في القرآن قوله تعالى: (فَأَمّا الّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إلاّ اللّهُ وَالرّاسِخونَ في الْعِلْمِ)[8] فلا يعلم تأويل الايات المتشابهات غير الله تعالى ومَن أخذوا علمهم عن الله، أي النبي والائمة الطاهرون صلوات الله عليهم أجمعين.
من هنا فنحن لسنا كالاخباريين الذين يرون أن فهم كل ما في القرآن مختص بالنبي والائمة، وأنه يلزم لفهم أيّ آية كانت الرجوع الى الروايات التي تناولت تلك الاية. فنحن نقول: إن مقداراً من الايات القرآنية ـ هي الايات المحكمات والبينات ـ يمكن لكل الناس فهمه شريطة معرفتهم باللغة العربية لعصرالبعثة، وأسباب نزول الايات وظروفها، وأن لا يتجاوزوا الحدّ الذي يفهمونه بوضوح.
10 ـ هناك مَن ينسب تفسير آية أو موضوع قرآني إلى النبي أو الامام بمجرّد أنه وجد رواية واحدة أشارت الى ذلك المورد، لكن مَن قال إنّ أيّ رواية هي في واقعها صادرة عن النبي أو الامام إذا نسبت لهما في أي كتاب؟ نعم، إذا ثبت أن الرواية التفسيرية صادرة عن النبي أو الامام فلا نقاش في ذلك فإنها تلعب دوراً مهماً في فهم القرآن، ولكن ما هو مقدار الروايات التفسيرية الذي يمكننا الجزم بأنه صادر عن النبي والائمة؟ فمما لا شك فيه أن الكثير من الروايات التفسيرية غير تامة السند، وإذا لم تكن كذلك كانت خبراً واحداً، وبالتالي لا تشكّل دليلاً قاطعاً أيضاً.
وعلى هذا الاساس فإن موقفنا من الروايات التفسيرية موقف واضح، وهو موضع تأييد عموم العلماء الكبار. فكلّ رواية صحيحة السند ويقينية الدلالة هي برأينا في مصافّ القرآن. وهذا معنى الكتاب والسنّة، أو الكتاب والعترة. أما إذا كان سند الرواية مطعوناً به أو ظنيّاً، أي لم تكن دلالة عبارته قطعية، فليس من حقّنا منحها دوراً مهماً في فهم القرآن.
إن هذا الموقف الذي اُعلنه موقف قطعي وهو غير شخصي، إنما موقف محققينا عموماً، وهو ينصّ على أن كلّ رواية ثبت صدورها عن النبي أو الائمة صلوات الله عليهم ولم تكن عبارتها مبهمة ولا معقّدة، وكان معناها واضحاً، فإن لها دوراً حاسماً وأساسياً في تفسير القرآن، وفي غير هذه الصورة لا يكون لها مثل هذا الدور، كما هو موجود في الدراسات التاريخية، فأكثر الروايات التفسيرية ليست ثابتة السند وغير واضحة المعنى.
فهناك نقاشات حول تفسير علي بن إبراهيم، وحول الروايات الواردة في التفسير المنسوب للامام الحسن العسكري(عليه السلام)، وحتى حول الروايات التفسيرية الموجودة في كتاب الكافي. فأي عالم وفقيه يقول اليوم: إن كل الروايات الواردة في فقه المعاملات في كتاب الكافي ثابتة؟ فلقد كان المرحوم آية الله البروجردي لدى تدريسه الفقه يكرّر البحث مراراً حول روايات الكافي، فيردّ بعضها ويطرح البعض الاخر جانباً، ففي كتاب الكافي نفسه هناك روايات متضاربة لا بدّ من استبعاد بعضها، وهكذا في الفقه أيضاً، يجب تمحيص الروايات بدقّة، فلا نخلط بين الاعتبار والاهمية المعطاة للسنّة والعترة، وبين الاعتبار والاهمية اللذين اُعطيا جزافاً لكل عبارة منسوبة للنبي والائمة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين.
ونقرأ في كتب الحديث نفسها أن النبي(صلى الله عليه وآله) حذّر بنفسه من كثرة الكذّابين عليه في حياته، فدعا الى عرض ما ينقل عنه على كتاب الله لنأخذ ما وافق الكتاب وندع ما خالفه، وهذا أمر جلي لا يختص بعصر دون غيره، ولا بالاسلام دون سواه، فقد وُجد واضعو الاحاديث والاخبار قبل الاسلام وفي كل الاديان والرسالات والمجتمعات. نحن نحترم كتاب الكافي وأمثاله، وهو كتاب قيّم، إلاّ أنه ليس ثابتاً كله، أي أن الكافي ليس في مصاف القرآن. إن المرحوم ثقة الاسلام الكليني عالمٌ جليل القدر في نظرنا، ولكن هل أن كتابه الكافي كالقرآن؟ كلاّ، وليس نهج البلاغة كالقرآن، وليست كتب المرحوم الصدوق كالقرآن. وهنا نخلص إلى أنه لا يوجد كتاب كالقرآن، فكلّها يجب أن تخضع للبحث.
إن القرآن هو المعيار الاساسي لان نسبته الى النبي الاكرم ثابتة، وأحاديث النبي والائمة صلوات الله عليهم مثل القرآن وعدله إذا كانت قطعية. وعليه فإن الاستفادة من الاحاديث والروايات في فهم القرآن فن دقيق وحاذق جداً، ويتطلب تخصصاً كاملاً، وذلك لان بعض الاحاديث موضوعة، وبعضها غير معتبرة فتوقع الانسان في الخطأ.
اُؤكد مرة أخرى، أن لِلّذين يمتلكون معرفة بدقائق المسائل الاجتماعية والاخلاقية والعرفانية والمعنوية للانسان استنتاجات حيّة وقيّمة لدى استئناسهم بالقرآن الكريم، فلا يجب أن نغفل أبداً عن أهمية تلك الاستنتاجات، شرط أن لا تصل حد التفسير بالرأي وتحميل القرآن ما نرغب فيه، وهناك روايات رائعة في تفسير القرآن، وهي مفيدة شرط أن لا نمنحها الدور الاساس في التفسير إنما دور التذكير، فالدور الاساس نمنحه فقط للرواية التي تكون نسبتها للنبي أو الامام ثابتة، نقول ثابتة وليس ظنيّة، وحتى لو كان خبراً صحيحاً، فالخبر الصحيح في اصطلاح علم الحديث ـ الذي نجيز الاستناد اليه في الفقه ـ إن لم يكن قطعياً فليس له دور أساس في تفسير القرآن، لان الخبر الصحيح لا يورث القطع دائماً، ولا يؤدّي الى اليقين، فهو خبر غير يقيني لم ينقله سوى أحد الثقات، وقد يكون هذا النوع من الاخبار حجّة في الفقه، لكنه ليس حجّة في التفسير. فالخبر اليقيني يمكنه أن يؤدّي دوراً أساسياً في التفسير، في حدود الدلالة الواضحة واليقينية، ولغيره من الروايات دور المؤيّد.
آمل أن نستطيع السير على الصراط المستقيم بمراعاة هذه المعايير وبالاستفادة من القرآن الكريم الذي هو كتاب من الله مبين ونور وهدى للعالمين:
(قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبينٌ * يَهْدي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ رضوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ..)[9].
________________________________________
([1]) المرسلات: 25 .
([2]) الفرقان: 1.
([3]) سبأ: 28 .
([4]) البقرة: 43 .
([5]) العنكبوت: 45 .
([6]) نائب الامام.
([7]) آل عمران: 7 .
([8]) آل عمران: 7 .
([9]) المائدة: 15 ـ 16 .