قيمة القرآن لدى المسلمين
القرآن يشمل على منهاج الحياة:
الدين الاسلامي الذي يشتمل على أتم المناهج للحياة الانسانية ويحتوي على ما يسوق البشر إلى السعادة والرفاه، هذا الدين عرفت أسسه وتشريعاته من طريق القرآن الكريم، وهو ينبوعه الاول ومعينه الذي يترشح منه.
والقوانين الاسلامية التي تتضمن سلسلة من المعارف الاعتقادية والأصول الأخلاقية والعملية، نجد منابعها الأصيلة في آيات القرآن العظيم.قال تعالى:
(ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)(1).
وقال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء)(2).
وواضح كل الوضوح أن في القرآن كثيرا من الآيات التي نجد فيها أصول العقائد الدينية والفضائل الأخلاقية وكليات القوانين العملية، ولا نرانا بحاجة إلى سرد كل هاتيك الآيات في هذا المجال الضيق.
***
وبشيء من التفصيل نقول:
لو دققنا النظر في النقاط التالية ندرك كيف اشتمل القرآن الكريم على المناهج الحياتية التي لابد من توفرها للانسان:
1 -¬ لايهدف الانسان من حياته الا السعادة والهناء والوصول إلى الأماني التي يتمناها. السعادة والهناء لون خاص من ألوان الحياة يتمناها الانسان ليدرك في ظلها الحرية والرفاه وسعة العيش وما اشبه هذا.
والذي نراه في حالات شاذة أن بعض الناس يدير وجهه عن السعادة والرغد، كأن ينتحر أو يحرم كثيرا من وسائل الرفاه على نفسه. هكذا انسان مبتلى بعقد نفسية يرى من جرائها ان السعادة فيما يقوم به من الأعمال المضادة للسعادة. فمثلا يصيب البعض أنواع من متاعب الحياة ولايتمكن من حملها فيلجأ إلى الانتحار لأنه يرى الراحة في الموت، أو يتزهد بعضهم ويجرب أنواع الرياضات البدنية ويحرم على نفسه اللذائذ المادية لأنه يرى السعادة في هكذا حياة نكدة.
اذا الجهد الذي يبذله الانسان ليس الا لدرك تلك السعادة المنشودة. نعم تختلف الطرق المتبعة للوصول إلى الهدف المذكور، فبعضهم يسلك السبيل المعقول وبعضهم يخطىء فيقع في متاهات الضلال.
2 -¬ الأعمال التي تصدر من الانسان لاتكون الا في اطار خاص من الأنظمة والقوانين. هذا بديهي لا يقبل الانكار، ولو خفي في بعض الحالات ليس الا لشدة وضوحه.
ذلك لأن الانسان من جهة لايعمل شيئا الا بعد ان يريده فعمله صادر عن ارادة نفسية يعلمها هو ولاتخفي عليه. ومن جهة اخرى انما يعمل ما يعمل لأجل نفسه، يعني انه يحس بضرورات حياتية لابد من توفرها، فيعمل ليوفر تلك الضرورات على نفسه. فبين أعماله ارتباط مستقيم يربط بعضها ببعض.
الأكل والشرب والنوم واليقظة والجلوس والقيام والذهاب والمجيء، هذه الاعمال وغيرها من الأعمال الكثيرة التي يقوم بها الانسان، هي ضرورية له في بعض الحالات وغير ضرورية في حالات أخرى، وهي تنفع في بعض المجالات وتضر في مجالات أخرى. فكل ما يعمله الانسان نابع من قانون يدرك كلياته في نفسه. ويطبق جزئياته على أعماله وأفعاله.
كل شخص في أعماله الفردية يشبه حكومة كاملة لها قوانينها وسننها وآدابها، والقوى الفعالة في تلك الحكومة عليها أن تطبق أعمالها اولا مع تلك القوانين ثم تعمل.
والأعمال الاجتماعية في مجتمع ما تشبه الأعمال الفردية فتحكم فيها مجموعة من القوانين والآداب التي تواضع عليها اكثر أفراد ذلك المجتمع، والا فسوف تسود الفوضى في أقرب وقت وينفصم عراهم.
نعم اذا كان المجتمع مجتمعا مذهبيا تحكم فيه أحكام المذهب وقوانينه، ولو كان غير مذهبي ولكن له نصيب من المدنية فيصبغ أفعاله بصبغة القانون المدني، أما اذا كان المجتمع متوحشا فتحكم فيه الآداب والقوانين الفردية المستبدة أو القوانين التي وجدت من جراء احتكاك مختلف العقائد والآداب بصورة فوضى غير منظمة.
فاذا لابد للانسان من هدف خاص في أفعاله الفردية والاجتماعية، وللوصول إلى ذلك الهدف لامحيص من تطبيق أعماله بقوانين وآداب خاصة موضوعة من قبل دين أو اجتماع أو غيرهما.
والقرآن الكريم نفسه يؤيد هذه النظرية حيث يقول: (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات)(3).
والدين في عرف القرآن يطلق على الآداب والقوانين بصورة عامة، فان المؤمنين والكافرين ¬ وحتى المنكرين لله تعالى ¬ لايخلون من دين ما، لأن كل انسان يتبع قوانين خاصة في أعماله، كانت تلك القوانين مستندة إلى نبي ووحي أو موضوعة من قبل شخص أو جماعة ما، يقول تعالى في أعداء الدين: (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا)(4).
3 -¬ ان أحسن وأثبت الآداب التي يليق بالانسان أن يتبعها هي الآداب التي توحيها اليه الفطرة السليمة، لا النابعة من العواطف والاندفاعات الفردية أو الاجتماعية.
ولو تأملنا في كل جزء من أجزاء الكون لنرى ان له هدفا خاصا وجهته من أول يوم خلقته تحقيق ذلك الهدف من أقرب الطرق وأحسنها، وهو يشتمل على مالابد منه لتحقيق هدفه من الوسائل والآلات. هذا شأن كل مخلوق في الكون ذي روح أم غير ذي روح.
مثلا حبة الحنطة من أول يوم توضع في بطن الأرض وتخرج منها الخضرة تسير في طريق التكامل لتكون لها سنابل تحمل حبات كثيرة من الحنطة، وهي مجهزة بوسائل خاصة تستفيد بواسطتها من العناصر التي لابد من توفرها من أجزاء الأرض والهواء بنسب معلومة، وتعلو يوما فيوما وتتحول من شكل إلى آخر حتى يكون لها سنابل في كل سنبلة، حبات، وحينئذ تكون قد وصلت إلى هدفها المنشود وكمالها الذي كانت تهدف اليه.
وشجرة الجوز لم نحقق فيها النظر لنرى انها تسيرأيضا نحو هدف معين من أول يوم خلقتها، وللوصول إلى ذلك الهدف جهزت بآلات خاصة تناسب سيرها التكاملي وقوتها وضخامتها وهي في مسيرتها لاتتبع الطريقة التي اتبعتها الحنطة كما أن الحنطة لم تسر سير الجوزة.
ان جميع مانشاهده في الكون يتبع هذه القاعدة المطردة وليس لنا دليل ثابت على ان الانسان شاذ عنها في مسيرته الطبيعية إلى هدفه الذي جهز بالآلات اللازمة للوصول اليه بل الأجهزة الموجودة فيه أحسن دليل على أنه مثل بقية مافي الكون له هدف خاص يضمن سعادته وتوفرت فيه الوسائل للوصول اليه.
وعليه فخلقة الانسان وخلقة الكون الذي ليس الانسان الا جزءا منه، تسوقه إلى السعادة الحقيقية، وهي توحي اليه أهم وأحسن واثبت القوانين التي تضمن سعادته.
يقول تعالى: (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)(5).
ويقول: (الذي خلق فسوى والذي قدّر فهدى»(6) ويقول: «ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها)(7).
ويقول: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم)(8).
ويقول: (ان الدين عند الله الاسلام)(9).
ويقول: (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه)(10).
ومحصل هذه الآيات وآيات أخرى بهذا المضمون لم نذكرها أن الله تعالى يسوق كل واحد من مخلوقاته ¬ بما فيهم الانسان إلى الهدف والسعادة الاسمى التي خلقهم لأجلها، والطريقة الصحيحة للانسان هي التي تدعوه اليه خلقته لخاصة، فيجب أن يتقيد في أعماله بقوانين فردية واجتماعية نابعة من فطرته السليمة، ولايتبع مكتوف اليد هواه وعواطفه وماتمليه عليه ميوله وشهواته. ومقتضى الدين الفطري (الطبيعي) أن لايهمل الانسان الأجهزة المودعة في وجوده، بل يستعمل كل واحدة منها في حدودها وما وضع له لتتعادل القوى الكامنة في ذاته ولاتغلب قوة على قوة.
وبالتالي يجب أن يحكم على الانسان العقل السليم لامطاليب النفس والعواطف المخالفة للعقل، كما يجب أن يحكم على المجتمع الحق وما هو الصالح له حقيقة لا انسان قوي مستبد يتبع هواه وشهواته ولا الأكثرية التي تخالف الحق والمصالح العامة ونستخلص من البحث الذي مضى نتيجة أخرى، هي: أن تشريع الأحكام ووضع القوانين راجع إلى الله تعالى، وليس لأحد أن يشرع القوانين ويصنع المقررات غيره، لأننا عرفنا من البحث السابق أن الآداب والقوانين التي تفيد الانسان في حياته العملية هي المستوحاة من خلقته الطبيعية، ونعني بها القوانين والآداب التي تدعو اليها العلل والعوامل الداخلية والخارجية الكامنة في خلقته، وهذا يعني أن الله تعالى يريدها ومعنى أنه يريدها أنه أودع في الانسان العلل والعوامل التي تقتضي تلك القوانين والآداب.
نعم الارادة تنقسم إلى قسمين: قسم منها تجبر على ايجاد الشيء كالحوادث الطبيعية التي تقع في كل يوم، وهي المسماة بـ«الارادة التكوينية»، والقسم الآخر يقتضي ايجاد الشيء من طريق الاختيار لا الجبر كالأكل والشرب وأمثالهما، وهي المسماة بـ«الارادة التشريعية».
يقول تعالى: (ان الحكم الا لله)(11).
***
وبعد وضوح هذه المقدمات يجب أن يعلم: ان القرآن الكريم مع رعايته للمقدمات الثلاث المذكورة ¬ وهي أن للانسان هدفا يجب أن يصل اليه طول حياته بمساعيه وأعماله ولايمكن الوصول إلى هدفه الا باتباع قوانين وآداب، ولابد من درس تلك القوانين والآداب من كتاب الفطرة والخليقة ونعني به التعليم الالهي ¬ مع رعاية القرآن الكريم هذه المقدمات وضع مناهج الحياة للانسان كما يلي:
جعل أساس المنهج على معرفة الله وجعل الاعتقاد بوحدانيته أول الأصول الدينية، ومن طريق معرفة الله دله على المعاد والاعتقاد بيوم القيامة الذي يجازى فيه المحسن باحسانه والمسيء باساءته وجعله أصلا ثانيا، ثم من طريق الاعتقاد بالمعاد دله على معرفة النبي لأن الجزاء على الأعمال لايمكن الا بعد معرفة الطاعة والمعصية والحسن والسيء ولاتتأتى هذه المعرفة الا من طريق الوحي والنبوة ¬ كما سنفصله فيما بعد ¬ وجعل هذا أصلا ثالثا.
واعتبر القرآن الكريم هذه الأصول الثلاثة ¬ الاعتقاد بالتوحيد والنبوة والمعاد ¬ أصول الدين الاسلامي.
وبعد هذا بيّن أصول الأخلاق المرضية والصفات الحسنة التي تناسب الأصول الثلاثة والتي لابد أن يتحلى بها كل انسان مؤمن، ثم شرع له القوانين العملية التي تضمن سعادته الحقيقية وتنمي فيه الأخلاق الطيبة والعوامل التي توصله إلى العقائد الحقة والأصول الأولية.
وهذا لأننا لايمكن أن نصدق أن انسانا يتصف بعفة النفس وهو منهمك في المسائل الجنسية المحرمة ويسرق ويخون الأمانة ويختلس في معاملاته، كما أننا لايمكن أن نعترف بسخاء شخص يفرط في حب المال وجمعه وادخاره ومنع حقوق الآخرين، وكذلك لانعتبر رجلا مؤمنا بالله تعالى واليوم الآخر وهو لايعبد الله ولايذكره في أيامه ولياليه. فالأخلاق المرضية لاتبقى حية في الانسان الا اذا قورنت بأعمال تناسبها.
ومثل هذه النسبة التي ذكرناها بين الأعمال والأخلاق توجد أيضا بين الأخلاق والعقائد، فان انسانا مغمورا بالكبر والغرور وحب الذات لايمكن ان يعتقد بالله تعالى ويخضع لعظمته، وهكذا من لم يعلم طول حياته معنى الانصاف والمروءة والعطف على الضعفاء لايدخل في قلبه الايمان بيوم لقيامة والحساب والجزاء.
يقول تعالى بصدد ربط العقائد الحقة بالأخلاق المرضية: (اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)(12).
ويقول تعالى في ربط الاعتقاد بالعمل: (ثم كان عاقبة الذين اساؤا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون)(13).
ونتيجة القول: ان القرآن الكريم يحتوي على منابع أصول الاسلام الثلاثة كما يلي:
1 ¬- أصول العقائد، وهي تنقسم الىأصول الدين الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد، وعقائد متفرعة عنها كاللوح والقلم والقضاء والقدر والملائكة والعرش والكرسي وخلق السماوات والارضين وأشباهها.
2-الأخلاق المرضية.
3 -¬ الأحكام الشرعية والقوانينالعملية التي بين القرآن أسسها وأوكل بيان تفاصيلها الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل النبي بيان أهل بيته عليهم السلام بمنزلة بيانه كا يعرف ذلك من حديث الثقلين المتواتر نقله عن السنة والشيعة(14).
القرآن سند النبوة:
يصرح القرآن الكريم في عدة مواضع أن كلام الله المجيد يعني أنه صادر من الله تعالى بهذه الألفاظ التي نقرأها، وقد تلقاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الألفاظ بواسطة الوحي.
وللاثبات بأنه من كلام الله تعالى وليس مما أبدعه البشر تحدى القرآن في آيات منه كافة الناس في أن يأتوا ولو بآية من مثله، وهذا يدل على أنه معجز لايمكن أن يأتي بمثله أي واحد من الناس.
قال تعالى: (أم يقولون تقوله بل لايؤمنون. فليأتوا بحديث مثله ان كانوا صادقين)(15).
وقال: (قل لئن اجتمعت الجن والانس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لايأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)(16).
وقال: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات)(17).
وقال: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله)(18).
وقال: (وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله)(19).
وتحديا لهم بخلو القرآن من الاختلاف قال: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)(20).
القرآن الكريم الذي يثبت بهذه التحديات أنه كلام الله تعالى يصرح في كثير من آياته بأن محمدا رسول مرسل ونبي من الله، وبهذا يكون القرآن سندا للنبوة.
ومن هنا أمر النبي صلى الله عليه وآله في بعض الآيات بأن يستند لاثبات نبوته بشهادة الله عز شأنه له بذلك، ويعني بها تصريح القرآن بنبوته، فيقول: (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم)(21).
وفي موضع آخر يزيد على شهادة الله شهادة الملائكة بذلك فيقول: (لكن الله يشهد بما أنزل اليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا)(22).
______________________________
(1) سورة الاسراء: 9.
(2) سورة النحل: 89.
(3) سورة البقرة: 148.
(4) سورة الأعراف: «4. وجه دلالة الآية الكريمة على ما قلناه أن جملة «سبيل الله» تطلق في عرف القرآن على الدين، والآية تدل على ان الكافرين ¬ وحتى الذين ينكرون الله تعالى ¬ يحرفون دين الله (دين الفطرة) فالآداب التي يتبعونها في حياتهم هي دينهم.
(5) سورة طه:50.
(6) سورة الأعلى: 3 ¬ 4.
(7) سورة الشمس: 7 ¬ 10.
(8) سورة الروم: 30.
(9) سورة آل عمران: 19.
(10) سورة آل عمران: 85.
(11) سورة يوسف:40 و67.
(12) سورة الفاطر: 10.
(13) سورة الروم:10.
(14) راجع كتاب عبقات الأنوار» مجلد حديث الثقلين، فقد ذكر فيه مئات أسانيد وطرق العامة والخاصه إلى الحديث المذكور.
(15) سورة طور: 33،34.
(16) سورة الاسراء: 88.
(17) سورة هود: 13.
(18) سورة يونس: 38.
(19) سورة البقرة: 23.
(20) سورة النساء: 82.
(21) سورة الرعد: 43.
(22) سورة النساء: 166.